بين الحلم والخذلان: حكاية لم تُكتب بعد

بين الحلم والخذلان: حكاية لم تُكتب بعد
شبكة النايل الإخبارية / محمد الجامعي
قرأتُ يومًا أن لكل إنسانٍ حكايةً تستحق أن تُروى، وأن الكتابة تُطفئ النيران المستعرة في الصدور كما تُطفأ السيجارة في المطفأة. كنتُ أُشكك في ذلك، كيف للحروف أن تُحوّل الجرح إلى ذكرى دون ألم؟ كيف للورق أن يصير ضمادًا لندوبٍ لم تلتئم؟ لكنني أدركت لاحقًا أن الألم لا يُمحى، بل يُعاد ترتيبه على هيئة كلمات.
كم تمنيتُ لو أن ما في قلبي يُرى ولا يُكتب، لو أنكم استطعتم أن تبصروا الخراب الذي عشّش في روحي، لعلّكم حينها تدركون أن الدموع ليست نهرًا يُغسل به الحزن، وأن الضيق لا يمرّ كما يمرّ الليل، بل يتجذر في الأعماق، يطول مع الزمن، يتكاثر كالظلال حين تميل الشمس. في زمنٍ لا يرحم، لا مكان للبوح، ولا يد تمتد لتضميد الجراح.
أنا العالق بين ذاكرة لا تموت، وتساؤلات لا تنتهي، وبين حلمٍ ظللتُ أركض خلفه حتى صار السراب أقرب إليه من الحقيقة. ذات يوم، كنت أظن أن الغيوم في السماء تُخبئ المطر لمن ينتظرونه، فقررتُ أن أهديها ريحًا علّها تُنزل خيرها على العطشى، وقد أمطرت. لكنني اليوم أبحث عمن يعيد إليّ ابتسامتي التي كانت زادي في هذه الرحلة الطويلة، والتي ظننتُ أنها لن تخذلني أبدًا.
لم يكن لي أن أسمح بإسدال الستار قبل أن ينتهي المشهد، ولم يكن من السهل أن أتحول إلى مجرد ذكرى تُركن في زوايا النسيان. رفضتُ أن أدفن رأسي وجسدي في الرمال، حتى وإن صار الألم سريره المفضل. سأقاوم، حتى لو لم يتبقَّ لي من العمر سوى رمقين.
وحين بدأتُ الكتابة، شعرتُ أن النيران بدأت تهدأ، وكأنني أفتح نوافذ غرفتي ليدخلها نسيم الصباح. استمريتُ في السرد، وكتبتُ بكل ما أوتيتُ من قوة، قررتُ ألّا أتوقف حتى لو خذلتني الحروف وامتلأت بالأسود الحالك. كنتُ أُصغي لصمت معاناتي حتى تحول هذا الصمت إلى صرخة، وتحول الألم إلى لغة يختلط فيها الحلم بالأمل. وهكذا بدأتُ أكتب.
أدركتُ أن ميدان كرة القدم ليس مجرد ساحةٍ خضراء، بل عالمٌ مزدحم؛ يسكنه ملاكٌ مقيدٌ بألف شيطان، كلهم يحلمون بفاكهة الجنة، بينما نحن نحاول أن نحافظ على جزءٍ من إنسانيتنا. كثيرون عاشوا معنا اللحظات، لكن قليلًا منهم أدركوا معناها، أما الآخرون فيحاولون طمسها، ومع مرور السنوات، يبدو كل ما حققناه أقل أهمية في أعينهم، يصفون إنجازاتنا باللعب، وكأن الحياة لم تكن سوى لهوٍ عابر، حتى صدّقنا نحن أنفسنا أن العالم بأسره مجرد سراب.
لم تكن لي سلطةٌ كافيةٌ لأدافع عن قضيتي، كانت الرياح تعصف بي من كل اتجاه، كعواصف استوائية لا تهدأ. أحيانًا، كنتُ أتصور أن حلمي قد انتهى، ذلك الحلم الذي لطالما اعتقدتُ أنني سأستيقظ يومًا لأعيشه واقعًا. لكنني أدركتُ في النهاية أنني لا أستطيع تغيير اتجاه الريح، لكنني أستطيع أن أعدّل أشرعتي، وأواصل السير حتى أصل.
التاريخ ليس فقط ما كان، بل ما كان يجب أن يكون. قد تبدو أثقاله مرهقة، لكنها تُلهمنا، تُحرضنا على البقاء، نحن اليوم في صراعٍ دائم معه؛ بين من يحاول طمسه ومن يسعى للحفاظ عليه، وكأننا في معركةٍ بين التوبة والمعصية.
في ظلام الليل، تتشابه الألوان، لكن مع بزوغ الفجر، تنكشف الأسرار وتستبين الطرق. لم تكن الكتابة محاولةً لتجميل صورتي، بل كانت صوتًا أودُ أن يصل إلى من يهمّه الأمر، حقيقةً أضعها أمامكم، علّها تُنير العتمة، وتروي ما عجزتُ عن قوله، فمن يقتلنا ليس من يُزهق أرواحنا، بل من يحطم أحلامنا.