محافظات

ا.د هشام الخولي يكتب : كيف تفضحنا المفردات المنحازة دون أن نشعر؟              

ا.د هشام الخولي

كنتُ أراجع ذات يوم بحثًا لأحد طلاب الدراسات العليا، وذلك في مكتبي بالدور الثالث بكلية التربية، بجامعتي الحبيبة، وقد كان متحمسًا جدًا ليثبت أن هناك فروقًا واضحة بين الذكور والإناث في مستوى الذكاء العاطفي، وبينما كان يحدثني بحماسه، سألته سؤالًا بسيطًا لكنه أربكه: هل تحققت من الأداء التفاضلي للمفردات؟ نظر إلي بدهشة وكأنه يسمع بهذا المصطلح لأول مرة، وقال ببراءة: وهل المفردات تتحيز؟ أليست مجرد أسئلة عابرة تقيس ما نريد؟. ابتسمت وقلت له: لا يا بني، المفردة مثل الإنسان تمامًا، أحيانًا تميل لطرف على حساب آخر، فتجعل مجموعة تبدو أفضل بلا حق، أو تخفض من قيمة مجموعة أخرى بلا سبب. وكأنها قاضٍ جالس في محكمة لكنه منحاز مسبقًا.

 

تخيل مثلًا أننا نريد قياس مهارة القيادة بين الشباب والفتيات، وجعلنا أحد البنود مصاغة كما يلي:

“أحب أن أقود فريقًا في مباراة كرة قدم”.

هنا سيظهر الذكور أعلى بطبيعة الثقافة والاهتمامات، لكن هذا لا يعني أنهم أكثر مهارة قيادية، بل إن المفردة نفسها منحازة، كأنها تقول “أنا مع الأولاد”. وهكذا تنكشف لنا خطورة أن نقارن بين مجموعتين من البشر بأداة لم نتأكد أولًا من عدالتها.

 

وأذكر مواقف كثيرة واجهتها مع مجلات عالمية، رفضت نشر أبحاث كاملة لمجرد أن الباحث لم يتحقق من الأداء التفاضلي للمفردات، هذه المجلات لا تساوم على العدالة العلمية، فهي تدرك أن البحث الذي يبنى على أداة منحازة يشبه من يقيس الطول بمسطرة معوجة، نعم سيحصل على أرقام، لكنها كلها بلا قيمة، وبعيدة عن الحقيقة.

 

وهنا أتحدث إلى كل باحث شاب في بداية الطريق: لا تجعل حماسك لإثبات الفروق بين المجموعات يسبق التحقق من عدالة أدواتك. الأداة هي بيت القصيد، هي التي ترفع بحثك إلى مستوى القبول والاحترام أو تهدمه تمامًا. قبل أن تقول إن هناك فرقًا بين الذكور والإناث، أو بين طلاب المدن والريف، أو بين أي مجموعتين، قف أولًا واسأل نفسك: هل مفرداتي تقف على مسافة واحدة من الجميع؟ هل هي عادلة حقًا؟

 

واعلم أن المفردة قد تبدو صغيرة، لكنها قادرة على قلب نتائجك رأسًا على عقب. لذلك تعلم أدوات الكشف عن الأداء التفاضلي، مثل الاختبارات الإحصائية والنماذج المتقدمة، وكن واعيًا عند صياغة البنود حتى لا تحمل دلالات ضمنية تنحاز لثقافة أو جنس معين. ولا تنخدع بمؤشرات المطابقة الكلية، فقد يبدو النموذج في أحسن حالاته بينما داخله مفردات غير نزيهة تخفي الحقيقة.

 

وتذكر دائمًا أن البحث ليس مجرد جداول وأرقام، بل هو مسؤولية أخلاقية. وقبل أن يكون علم، فهو عدالة للإنسان واحترام لكرامة من نبحث عنهم. فأي قيمة لنتيجة ترفع طرفًا وتخفض آخر ظلمًا؟، لا شيء سوى تزييف للحقيقة.

 

وأختم كما بدأت: المفردة أحيانًا تتكلم وتقول “أنا منحازة”، وهنا يكون واجبك كباحث أن تكشف هذا الصوت الخفي، وأن تعيد للأداة نزاهتها. فالعدالة في القياس ليست خيارًا، بل هي شرط أساسي ليبقى لبحثك معنى، وليبقى لعلمك قيمة، وليبقى لرسالتك أثر حقيقي في خدمة الإنسان والمجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار